التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يعتبر سليم الثالث من ألمع السلاطين العثمانيين ومن أعظمهم جرأة في الحق، ومن أكثرهم رغبة في الإصلاح على الرغم من استلامه الحكم وهو في السابعة والعشرين.
السلطان سليم الثالث (1789-1807م)
السلطان سليم الثالث هو ابن السلطان الراحل مصطفى الثالث، وابن أخي السلطان السابق مباشرة عبد الحميد الأول، وكان من حسنات عبد الحميد الأول الكبرى أنه لم يقم بحبس وليِّ عهده[1] كما كان متَّبعًا في الأعراف السلطانيَّة، وهذا أثَّر إيجابيًّا على وليِّ العهد، فجاء مثقَّفًا، ذكيًّا، نشيطًا، عالمـًا بأحوال بلاده، مطَّلعًا على أحوال الدنيا.
يُعتبر سليم الثالث من ألمع السلاطين العثمانيِّين، ومن أعظمهم جرأةً في الحق، ومن أكثرهم رغبةً في الإصلاح والتغيير. على الرغم من استلامه الحكم وهو في السابعة والعشرين من عمره[2]، فإنه كان يملك حكمةً كبيرةً تفوق بكثيرٍ سنوات عمره القليلة. كانت فترة حكمه صاخبةً للغاية. تعدَّدت الأحداث الكبرى، سواءٌ في الدولة العثمانية أم في العالم، بصورةٍ لا تتكرَّر كثيرًا في التاريخ.
لم يتلقَّ مساعدات تُذْكر من الأنظمة البالية في دولته، بل على العكس قاوموه وحاربوه في إصلاحاته، ممَّا عرقل جهوده بشكلٍ محزن. أحسب أنه لو كان في زمن الأوَّلين لكان له شأنٌ كبيرٌ في التاريخ. كانت «الدولة العميقة» شديدة الإعاقة لجهود المصلحين. تلك الدولة المتمثِّلة في قادة الإنكشارية، وحكَّام الولايات، والموظفين الكبار، والقضاة، والعلماء الشرعيِّين، بل والموظفين الصغار الذين نشئوا على النظام البالي الرتيب، والفاسد في الوقت نفسه. كان الأمر يحتاج إلى إصلاحٍ جذري، وثوراتٍ تربويَّة، وتعليميَّة، واجتماعيَّة، فضلًا عن الثورات السياسيَّة، والعسكريَّة. لا يخفى على أحدٍ صعوبة تطبيق هذه الإصلاحات، خاصَّةً مع الضغوط الخارجيَّة، التي بلغت ذروتها في الحرب الروسيَّة النمساوية التي اشتعلت في آخر سنةٍ في فترة حكم السلطان الراحل عبد الحميد الأول.
يمكن تقسيم فترة حكم السلطان سليم الثالث إلى خمس مراحل حسب ما يغلب على كلِّ مرحلةٍ من سمات؛ الأولى تمتدُّ ثلاث سنواتٍ من 1789م إلى 1792م، وفيها استأنف السلطان مضطرًّا ما بُدِئ قبل عهده من الحرب الروسيَّة النمساوية، والثانية ست سنواتٍ من 1792م إلى 1798م، وفيها اجتهد في وضع خططه الإصلاحيَّة، وسعى بقوَّةٍ في تنفيذها، وواجهته مشاكل داخليَّة اجتهد في مواجهتها، ثم المرحلة الثالثة تمتدُّ ثلاث سنواتٍ من 1798م إلى 1801م، وفيها شَغَلَت الحملة الفرنسية على مصر كلَّ اهتمام الدولة، بل والعالم، ثم تأتي المرحلة الرابعة، وتمتدُّ من 1801م إلى 1806م، وفيها واجه السلطان عدَّة مشكلاتٍ داخليَّةٍ كبرى، وكذلك خارجيَّة، ثم أخيرًا تأتي المرحلة الخامسة، وهي آخر سنتين في حكمه، 1806م، و1807م، وفيهما واجه أطماعًا دوليَّة من روسيا، وبريطانيا، ثم عُزِل في آخر هذه المرحلة. وفي هذا المقال سنتناول الحديث عن المرحلة الرابعة:
المرحلة الرابعة: مشكلات داخليَّة كبرى، وأطماع خارجيَّة (1801-1806م)
لفتت الحملة الفرنسية أنظار الطامعين في الانشقاق في الولايات العثمانية المختلفة إلى ضعف الدولة الشديد. ظهر ذلك في اعتماد الدولة الكبير على بريطانيا وروسيا في الدفاع عن نفسها، كما ظهر في الهزائم المتتالية التي تعرَّضت لها الدولة من الجيش الفرنسي الصغير كلما واجهته منفردة. هذا الضعف العثماني أغرى بعض الولايات بالخروج عن تبعيَّة الدولة، كما كان سببًا في حدوث بعض المشكلات الكبرى على المستوى الخارجي كذلك. يمكن مناقشة هذه الأحداث تحت العناوين الآتية:
الصلح مع فرنسا:
كانت السلطان سليم الثالث يعلم أن اعتماده على روسيا وبريطانيا لا يعني إلا الدخول في متاهاتٍ كبرى؛ فالدولتان ذواتا أطماعٍ كبرى في الدولة العثمانية، وما وقفتا في وجه فرنسا إلا لمصالحهما الذاتيَّة، ثم إنه في الوقت نفسه يحتاج إلى فرنسا في تحديث دولته وجيشه، وعليه فهو يتمنَّى أن تكون الحملة الفرنسية على مصر والشام مجرَّد «سحابة صيف» في العلاقات العثمانيَّة الفرنسيَّة، خاصَّةً أنه يرى أن المستقبل القريب سيكون لصالح نابليون بونابرت، لذا انتهز السلطان فرصة طلب نابليون من السفير العثماني أسعد أفندي بدء الحديث عن معاهدة صلح[3]، فوافق في 9 أكتوبر 1801م على هذه الفكرة متناسيًا -مضطرًّا- للآثار الأليمة للحملة الفرنسيَّة التي انتهت منذ شهرٍ واحدٍ تقريبًا. ذكر نابليون للسلطان أن روسيا ذات أطماعٍ في البحر المتوسط، وقد قامت باحتلال الجزر الأيونية أثناء مساعدتها للعثمانيين، وأن بريطانيا ذات أطماعٍ في مصر، ولن تخرج منها بسهولةٍ الآن على الرغم من خروج الجيش الفرنسي[4][5]. كان كلام نابليون صحيحًا، وماطلت بريطانيا في الخروج من مصر ممَّا أزعج السلطان.
في 25 مارس 1802م وقعت بريطانيا معاهدة سلام مع فرنسا في مدينة إميان Amiens الفرنسية، وفيها اعترفت بريطانيا بالجمهوريَّة الفرنسيَّة، وأنهت التحالف الأوروبي الذي كان ضدَّها، كما التزمت بالانسحاب الفوري من مصر[6]، وكانت هذه إشارةً إلى الدولة العثمانية أن نجم فرنسا في صعود، فسرَّع ذلك من مفاوضات السلام، وانتهى الأمر بعقد معاهدة صلحٍ بين فرنسا والدولة العثمانية في 25 يونيو 1802م عُرِفَت بمعاهدة باريس، وفيها عادت العقود والاتفاقيَّات والعلاقات بين الدولتين إلى الوضع نفسه الذي كانت عليه قبل الحرب[7]. الواقع أن فرنسا لن تُقدِّم مساعداتٍ تُذْكَر للدولة العثمانية، بينما ستكون المعاهدة سببًا في إعلان الجفاء بين الدولة العثمانية من جهة، وبين الإنجليز والروس من جهةٍ أخرى؛ لعدم قبولهما بالطبع لعودة العلاقات مع فرنسا.
جديرٌ بالذكر -أيضًا- بخصوص هذه المعاهدة أن نابليون عقد مع الجزائر في 17 ديسمبر 1801م، ومع تونس في 23 فبراير 1802م، معاهدتين تجاريَّتين منفصلتين عن الدولة العثمانية[8]، ممَّا يُثْبِت خروجهما الفعلي من سيطرة العثمانيين؛ لأن توقيع المعاهدتين كان قبل معاهدة فرنسا مع الدولة العثمانية، أي أن العداء كان لا يزال قائمًا.
اضطرابات البلقان:
كان من الواضح أن قبضة الدولة العثمانية قد ضعفت على ولايات البلقان بشكلٍ عامٍّ مع بدايات القرن التاسع عشر. ظهر ذلك في عدَّة تمرُّدات ومحاولات للخروج من التبعيَّة. كان تعامل الدولة مع هذه الاضطرابات مهزوزًا لعدم وجود قوَّةٍ رادعةٍ لديها يمكن أن تحسم الأمر لصالحها. -أيضًا- كان الفساد في الإدارة العثمانيَّة يضع الدولة في حرج نتيجة الأخطاء الحقيقيَّة التي تُمَارَس تجاه الشعوب. كانت الدولة تُدرك ضعفها؛ لذلك كانت تغضُّ الطرف أحيانًا عن بعض التمرُّدات المهمَّة، وكانت أحيانًا تتواصل مع المتمرِّد وتحاول ترضيته بولايةٍ أو مال، وفي أحيانٍ ثالثة كانت تضرب هذا بذاك، وأخيرًا كانت تستخدم القمع في ردع التمرُّدات التي تراها خطرة. في الواقع كانت كلُّ هذه الوسائل غير ناجعة؛ لأنها لم تكن تُعالج الأسباب بشكلٍ جذري، إنما كان علاجًا مؤقَّتًا يُؤجِّل الانفجار ولا يمنعه. حدثت تمرُّداتٌ في هذه الفترة في بلغاريا، وصربيا، ومقدونيا، واليونان، وألبانيا، والجبل الأسود. يمكن أن نأخذ ثلاثة أمثلة مهمَّة لتوضيح الصورة:
1. تمرُّد عثمان بازواند أوغلو Osman Pazvantoğlu في ڤيدين Vidin:
استقلَّ هذا الوالي العثماني بولاية ڤيدين في أقصى غرب بلغاريا. كانت بدايات استقلاله بعد عام 1794م، وزادت خطورته، وضمَّ مساحاتٍ شاسعةً إلى حكمه. حاربته الدولة أعوام 1795م، و1798م، و1800م، ولكنها فشلت في قمعه فتراضت معه على الولاية واستخدمته، ومع ذلك كان يُثير الذعر في المدن المجاورة، ويفرض سيطرته بعنفٍ ظاهر. وصل في استقلاله عن الدولة إلى سكِّ العملات باسمه، وإلى إقامة العلاقات الدبلوماسيَّة مع الدول كفرنسا، وروسيا، والنمسا. انتهت فتنته بموته عام 1807م[9].
2. انتفاضة الصرب الأولى:
كانت هذه الانتفاضة بدايةً لعمليَّاتٍ ثوريَّةٍ متكرِّرة من الصرب بغية الخروج من التبعيَّة العثمانيَّة. كان السبب المباشر لهذه الانتفاضة هو سيطرة بعض الإنكشارية الهاربين من الدولة العثمانية على الحكم في صربيا بعد قتلهم لوالي بلجراد العثماني حاچي مصطفى باشا عام 1801م، الذي كان عادلًا ومحبوبًا بشدَّةٍ من الصربيين[10]. فرض هؤلاء الإنكشارية ضرائب باهظةً على الشعب الصربي، بالإضافة إلى العنف في المعاملة[11]. واقع الأمر أن هذه كانت شرارةً فقط لاحتقانٍ شديدٍ في الإقليم كلِّه، وقد رأينا قبل ذلك محاولات الصرب للخروج من التبعيَّة العثمانيَّة عن طريق الانضمام إلى النمسا في حربها مع العثمانيِّين ما بين أعوام 1788م و1791م. قامت الانتفاضة في فبراير 1804م بقيادة الصربي چورچ بتروڤيتش Petrović George الشهير بچورچ الأسود Karađorđe[12]. بعد مفاوضاتٍ فاشلةٍ حاولت الدولة العثمانية قمع الثورة بالجيش، لكنَّها فشلت مرَّتين؛ في عامي 1805م و1806م[13]. استمرت هذه الانتفاضة إلى عام 1812م[14]، وستتعاون بشكلٍ رسميٍّ مع الروس ضدَّ الدولة العثمانية في الحرب الدائرة بينهما بين أعوام 1806م و1812م، وتُعتبر هي البداية لانفصال صربيا الكامل الذي سيحدث لاحقًا في عام 1878م، عندما تتكوَّن صربيا الحديثة.
3. تمرُّد علي باشا اليانيني Ali Pasha of Yanina في اليونان وألبانيا:
توجد ولاية يانينا العثمانية في غرب الدولة، وتشمل قطاعاتٍ كبيرةً من ألبانيا، وغرب اليونان، ومقدونيا الشماليَّة، وقد استلم علي باشا -وهو من الألبان- حكم هذه الولاية عام 1788م، ولكن مع مرور الوقت استقلَّ بها، ووسَّعها جدًّا، وحارب الدولة، وصادق معظم أعدائها. استمر استقلاله مدَّةً طويلة، ولن ينتهي إلا في عام 1822م[15].
الحرب بين الدولة العثمانية والدولة السعودية الأولى:
حدثت مناوشاتٌ متكرِّرةٌ بين الدولة السعودية الأولى والعثمانيِّين نتيجة تجاور الحدود. كانت البداية في العراق في أبريل 1802م حيث اخترقت القوَّات السعودية حدود البلد العثماني، وهاجمت مدينة كربلاء ذات الكثافة الشيعيَّة، وهدمت قباب الأضرحة هناك، واستولت على أموال وهِبَات هذه الأضرحة، وقتلت عددًا كبيرًا من السكان[16]. تطوَّر الأمر لوضعٍ أخطر وهو غزو الحجاز نفسه؛ حيث استولت السعودية على الطائف في مارس عام 1803م[17]. في 30 أبريل من السنة نفسها تفاقم الأمر بشكلٍ أكبر عندما هاجمت السعودية مدينة مكة[18]، وسيطرت عليها لعدَّة أشهر فقط حيث تمكَّنت الدولة العثمانية من استردادها في 6 أغسطس 1803م[19].
في 1804م هاجمت القوَّات السعودية البصرة العثمانية، ولكنَّها لم تتمكن من احتلالها[20]. كان الحجاز يُمثِّل أهميَّةً كبيرةً للسعوديين فعادوا وهاجموا المدينة المنورة في 1805م وتمكنوا من أخذها من الدولة العثمانية[21]، واستولوا حينها على كلِّ النفائس والمجوهرات المهداة من العثمانيين إلى المسجد النبوي على مدار السنين، وقد وَصَفَ بعض هذه المجوهرات الرحَّالةُ الشامي فتح الله الصايغ الحلبي في رحلته إلى الدرعية عام 1810م[22]، وكان من هذه الجواهر جوهرة «الكوكب الدري» المشهورة شديدة النفاسة، التي تزن بمفردها مائةً وثلاثةً وأربعين قيراطًا من الماس[23]. ستعود السعودية لاحقًا وتسيطر على مكة في عام 1806م[24].
كان الاقتراب من مكة والْمَدِينَة يُمثِّل خطًّا أحمر للدولة العثمانية، خاصَّةً في هذا الوقت الذي تُعاني فيه من الضعف الشديد، وتُحاول أن تجمع المسلمين حولها. إن رمزيَّة مكة والْمَدِينَة لقيادتها للعالم الإسلامي في غاية الأهميَّة، وذهابهما إلى السعودية سيُؤثِّر سلبًا دون جدالٍ على مستقبل الدولة. لن يتمكن السلطان سليم الثالث من حلِّ هذه المعضلة، وستمتدُّ المشكلة إلى زمن السلطان محمود الثاني.
الوضع في مصر، وظهور محمد علي:
بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر في سبتمبر 1801م عادت مصر إلى حكم الدولة العثمانية، وعُيِّن خسرو باشا واليًا عليها[25]، وبقيت معه فرقةٌ من الإنكشاريَّة ومن الجيش العثماني. لم يترك الإنجليز البلد إلا بعد توقيعهم معاهدة إميان للسلام مع فرنسا في 25 مارس 1802م. صارت القوَّة الوحيدة المناهضة للعثمانيين في مصر هي قوَّة المماليك الذين كانوا يُسيطرون على الصعيد تحت قيادة محمد بك الألفي الموالي للإنجليز، وكذلك عثمان بك البرديسي[26]، وذلك بعد موت زعيمهم الأكبر مراد بك. بدأت الصراعات فورًا بين العثمانيين والمماليك.
رتَّب خسرو باشا جنوده في مناطق القاهرة والإسكندرية والدلتا، واكتشف في جيشه قائدًا ذكيًّا مقدامًا اسمه محمد علي من أصولٍ ألبانيَّة، وكان يقود فرقةً صغيرةً مكوَّنةً من ثلاثمائة جندي ألباني[27]، فرفعه إلى رتبةٍ أعلى، وصار قائدًا لأربعة آلاف جندي[28].
كان محمد علي من الشخصيَّات النادرة في التاريخ. كان يملك قدراتٍ سياسيَّةً وعسكريَّةً فريدة، بالإضافة إلى مَلَكَاتٍ قياديَّةٍ متميِّزة. -أيضًا- كان جريئًا، ذا قدرةٍ على التحليل بعمق، مولعًا بترتيب الخطط والمكائد، ذا ثقافةٍ واسعة، وتفكيرٍ علميٍّ منطقيٍّ منظَّم. كان محمد علي في الثانية والثلاثين من عمره فقط يوم جاء إلى مصر (1801م)، حيث إنه من مواليد عام 1769م[29] (العام نفسه الذي وُلِد فيه نابليون!)، ومع صغر سنه إلا أن طموحه -كنابليون- بلغ عنان السماء؛ حيث قرَّر أن يعتلي عرش مصر كلِّها، ثم يُؤسِّس إمبراطوريَّةً في الشرق! بدأ محمد علي في استمالة الجنود إلى فرقته لتزداد حجمًا وقوَّة، وتواصل مع بعض قوى المماليك بغية تحقيق توازن قُوى يخدم مصالحه، وحدث النفور بينه وبين خسرو باشا نتيجة ذلك. أراد خسرو باشا عزل محمد علي لكنَّه لم يتمكن لتمسُّك الجند به، ثم حدثت عدَّة فتنٍ وصراعاتٍ في الجيش العثماني بين قادة الإنكشارية والباشا كان من نتيجتها هروب خسرو باشا إلى الإسكندرية، وكثرة تبديل الولاة، وحدثت -أيضًا- عدة مواجهات بين العثمانيين والمماليك. ظهر محمد علي بشكل أكبر في هذه الصراعات، وصَادَق في البداية عددًا من المماليك، ثم انقلب عليهم، وتقرَّب كثيرًا لرموز المصريين الكبرى؛ كالعلماء، والتجار، وزعماء العائلات، وصار معروفًا لدى الجميع بحرصه على البلد، وشفقته على الشعب[30].
كانت مصر معزولةً بشكلٍ كبيرٍ عن إسطنبول، لعلَّه بسبب بُعْدِها، أو بسبب انشغال الدولة باضطرابات البلقان. في ظلِّ هذا الانعزال كان الجيش العثماني يختار رجلًا ليقوده إلى أن يأتي التعيين من السلطان. اختار الجيش العثماني في مصر خورشيد باشا لقيادته وصار محمد علي نائبًا له. طلب خورشيد باشا من الحكومة في إسطنبول إمداده بجنودٍ لمقاومة المماليك، فأرسلوا له جيشًا من الأكراد المشهورين بالعنف والتهوُّر. كان هذا الجيش وبالًا على المصريين أكثر من المماليك، وضجَّ الناس من تعدِّيَّاته عليهم[31]، وقاموا بعزل خورشيد باشا، وأقاموا محمد علي مكانه، ثم راسل العلماء ووجهاء البلد السلطانَ سليم الثالث يلتمسون منه تولية محمد علي على مصر، فوافق، وأتى الفرمان بتوليته في 9 يوليو 1805م، ومنحه لقب «باشا»[32].
حدثت عدَّة مواجهاتٍ بين محمد علي والمماليك، كانت نتيجتها سجالًا بين الفريقين. يقال: إن الإنجليز خشوا من وجود محمد علي القوي، الذي يمكن أن يقف أمام تحقيق طموحاتهم في مصر، فسعوا إلى نقله من البلد عن طريق الوشاية به عند السلطان سليم الثالث. وافق ذلك هوًى عند السلطان لأنه كان لا يعرف محمد علي من جهة، ويتوجَّس من ازدياد قوَّته من جهةٍ أخرى، فقرَّر نقله إلى ولاية سالونيك باليونان. تواصل محمد علي باشا مع العلماء، ووجهاء مصر، وخاصَّةً نقيب الأشراف عمر مكرم، الذين راسلوا السلطان سليم الثالث يطلبون إبقاء محمد علي في مصر لاستقرار الأوضاع في وجوده[33]. يُذْكر أن هذه هي المرَّة الأولى في تاريخ مصر التي يتدخل فيها الشعب بهذه الطريقة لترجيح كفَّة حاكمٍ على غيره، ويبدو أن هذا من أثر الحراك الشعبي الذي حدث أثناء الحملة الفرنسية. كذلك يمكن أن يكون السبب هو الضعف الظاهر على العثمانيين والمماليك معًا، ممَّا قد يوقع البلاد في قبضة الإنجليز بعد الفرنسيين، وهو ما لم يكن مقبولًا عند الشعب المصري. لهذا لم يُرِدْ الشعب أن يُفَوِّت فرصة وجود رجلٍ قويٍّ له طموحاتٌ واضحةٌ في تحسين وضع القُطر.
وافق السلطان سليم الثالث على المطلب الشعبي، وأرسل فرمانًا بذلك في أواخر 1806م[34]، ثم شاء الله أن يُثَبِّت أقدام محمد علي في حكم البلاد، فمات زعيما المماليك المعاديان لمحمد علي ميتةً طبيعيَّةً بعد أسابيع من تثبيته في حكم مصر؛ إذ مات البرديسي في نوفمبر 1806م، وبعده بشهرين مات محمد بك الألفي كذلك في يناير 1807م[35]، لتصفو الأجواء كثيرًا لمحمد علي باشا الذي تخلَّص بذلك من أكبر عدوَّين له، وإن كان المماليك ما زالوا منتشرين في القطر، وخاصَّةً في الصعيد.
هكذا صار محمد علي باشا واليًا مستقرًّا في حكمه بدعمٍ حقيقيٍّ من الشعب، وهذه ظاهرةٌ لم تكن ملحوظةً في تاريخ مصر، ولا في تاريخ المنطقة بشكلٍ عام، وسيكون لها تطبيقاتٌ مهمَّةٌ للغاية[36].
[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، ، 1988 صفحة 1/643.
[2] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م.صفحة 234.
[3] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 379.
[4] فريد، 1981 صفحة 379.
[5] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م. صفحة 55.
[6] Kane, Robert B.: Amiens, Peace of, In: Tucker, Spencer C.: The Encyclopedia of the Wars of the Early American Republic, 1783–1812: A Political, Social, and Military History, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2014., vol. 1, p. 13.
[7] بكديللي، كمال: الدولة العثمانية من معاهدة قينارجه الصغرى حتى الانهيار، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 1/85.
[8] فريد، 1981 صفحة 380.
[9] Gradeva, Rossitsa: Osman Pazvantoğlu (Osman Passvan-Oglou; Osman Pasvanoglu; Osman Pasvanoğlu of Vidin; Osman Pazvan Oğlu) (ca. 1758/1762–1807), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009., pp. 447-448.
[10] Miller, William: The Ottoman Empire and its Successors 1801 – 1927, Frank Cass & Co. LTD, London, UK, 1966., pp. 47-48.
[11] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. الصفحات 483، 484.
[12] Miller, 1966, p. 48.
[13] Judah, Tim: The Serbs: History, Myth and the Destruction of Yugoslavia, Yale University Press, New Haven, Connecticut, USA, Second Edition, 2000., pp. 51-52.
[14] مانتران، روبير: بدايات المسألة الشرقية (1839-1774)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (د).صفحة 2/19.
[15] Jacques, Edwin E.: The Albanians: An Ethnic History from Prehistoric Times to the Present, McFarland, North Carolina, USA, 1995., vol. 1, pp. 249-251.
[16] Vassiliev, Alexei: The History of Saudi Arabia, Saqi, 1998., pp. 138-139.
[17] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 381.
[18] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lvii.
[19] أوزتونا، 1988 صفحة 1/653.
[20] Wynbrandt, James: A Brief History of Saudi Arabia, Infobase Publishing, New York, USA, 2004., p. 137.
[21] أوزتونا، 1988 صفحة 1/653.
[22] شلحد، يوسف: رحلة فتح الله الصايغ الحلبي إلى بادية الشام وصحاري العراق والعجم والجزيرة العربية، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، 1991م. 438، 439.
[23] فريد، 1981 صفحة 408.
[24] Wynbrandt, 2004, p. 137.
[25] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. صفحة 543.
[26] فريد، 1981 صفحة 391.
[27] لوتسكي، 1985 صفحة 59.
[28] فريد، 1981 صفحة 390.
[29] Marsot, Afaf Lutfi Al-Sayyid: Egypt in the Reign of Muhammad Ali, Cambridge University Press, New York, USA, 1984., p. 24.
[30] حسين، أحمد: موسوعة تاريخ مصر، دار الشعب، القاهرة، 1973م.الصفحات 912–919.
[31] Marsot, 1984, p. 48.
[32] صبري، محمد: تاريخ مصر الحديث من محمد علي إلى اليوم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1926م. صفحة 32.
[33] الرافعي، عبد الرحمن: عصر محمد علي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 2001م. صفحة 41.
[34] Marsot, 1984, p. 56.
[35] صبري، 1926 صفحة 33.
[36] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 963- 970.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك